بقيت الفنانة التشكيلية ابنة المكسيك فريدا كاهلو شبه مغيّبة عن الإعلام العالمي، إلاّ بارتباط اسمها وحياتها بحياة الرسام دييغو ريييرا، الى أن تغيرت نظرة النقّاد إلى أعمالها التي اتسمت بالفنتازية والسذاجة والرمزية الخاصة في إطار هائل من الألوان الجريئة والمتضاربة. اليوم لم تعد فريدا كاهلو وحيدة أو منسية، بل صارت في الصدارة، حيث كان مشروع فيلم أولفير ستون عن حياتها من بطولة مادونا، وأيضاً المخرج لويس الديس قام بالاقتباس في فيلم من بطولة جنيفر لوبيز، كذلك فرانسيس فورد كوبولا لكن المحاولات الثلاث لم تصل إلى نتيجة إلى أن تمّ تصوير حياتها أخيراً عام 2002 في فيلم من إخراج الفنانة جولي تايمور، وهو مأخوذ عن كتاب ألفته هايدن هريرا، حيث جسّدت شخصيتها الممثلة سلمى حايك. وعنها سبق أن حققت السينما المكسيكية فيلماً بعنوان فريدا أيضاً من اخراج بول ليروك سنة 1984.
فيلم فريدا يصور الحياة التراجيدية الصاخبة المؤثرة للفنانة المكسيكية فريدا كاهلو، التي خلّفت وراءها تراثاً تشكيلياً رائعاً، وملامح حياة تجسد مقدار الوجع والقلق والمعاناة الذي لف سنوات عمرها القليلة، مذكرة إيانا بتلك المصائر المأساوية لأصحاب القلوب الكبيرة والمشاعر المرهفة الرقيقة، نلتقي النص الجميل الراقي وكيفية المعالجة الفنية التي أمسكت بالنص، والتفت حوله لتخلق صورة وحدثاً متكاملين، وقد تفوقت الممثلة سلمى حايك على نفسها في هذا الدور المعقد والمركب وهي تترجم الانفعالات الداخلية لدى الشخصية المقهورة عاطفياً والمدمرة نفسياً وجسدياً، غير أن هذه الشخصية لم تكن سلبية بالمرة، فهي تدافع عن نفسها وتقاوم في سبيل الارتقاء بنفسها وبإبداعها حتى تصل إلى الهدف الذي تريده. نص (فريدا) السينمائي يقتبس نوره من أكثر من كاتب، وقد أعاد الممثل إدوارد نورتون كتابته (يظهر نورتون أيضا في مشهدين في الفيلم بدور نلسون روكفلر).
في بداية الفيلم نرى الرسامة فريدا (سلمى حايك) بالعاصمة المكسيكية سنة 1945، أي قبل وفاتها بأسابيع قليلة، وهي مريضة جداً إلى حد منع الأطباء لها من الحركة، غير أنها تصر على حضور المعرض الخاص بأعمالها التشكيلية وهي راقدة على السرير. ومع مشهد خروج فريدا وهي مستلقية على فراش تحمله مجموعة أشخاص ليضعوه في عربة نقل كبيرة، وكأن اللقطة تبين نقل أثاث إلى مكان آخر، ومن خلال عملية « زووم» للكاميرا على وجه فريدا ننتقل إلى فترة الصبا لفتاة رشيقة مرحة مقبلة على الحياة بروح الشباب، مدللة من والدها الذي لم ينجب سواها ، عن طريق الفلاش باك المديد، والذي يستغرق الفيلم كله. تعود إلى سنوات العشرينيات.. عندما كانت فريدا شابة نشطة ومفعمة بالحيوية، حيث تتعرف على رسام الجداريات المشهور بفنه وبعلاقاته النسائية: ديجو ريفيرا (الفريدو مولينا) الذي كان يكبرها بواحد وعشرين سنة، بعد ذلك تتعرض فريدا لحادث سير في 1925، فتصبح مقعدة وطريحة الفراش زمناً، ومن أجل إشغال وقتها يحضر لها والدها أدوات الرسم لتنمي ولعها بالرسم، تتعرف على الحركة الطليعية في العاصمة، ثم يركز الفيلم على العلاقة العاطفية والزوجية بين فريدا وريفيرا، والتي تتسم - هذه العلاقة - بالصخب والتوتر، كما يتناول الفيلم جانباً من رحلاتها إلى نيويورك وباريس وارتباطهما بالحركة الثورية العالمية: السياسية والفنية من خلال تروتسكي والسورياليين.
ومع انتشار شهرتها تدهورت صحة كاهلو العليلة حتى رحلت في عام 1954 . ويحتوي الفيلم على بعض الأخطاء الصغيرة، فهو لا يذكر أن الآلام الجسدية المزمنة التي تعانيها كاهلو بدأت عندما أصيبت بشلل الاطفال وهي في سن السادسة، وليس في حادث سيارة الباص الذي كادت أن تلقى فيه حتفها في سن الثامنة عشرة في العام 1925، وكذلك يذكر الفيلم أن كاهلو أجهضت في أثناء وجودها في نيويورك لحضور معرض للوحات ريبيرا في متحف الفنون العصرية، في حين أن الحقيقة هي أن ذلك حدث في ديترويت. وأداء سلمى حايك لدور كاهلو يجعلك تحس أنك تشاهد الفنانة، ليس بسبب الشبه بينهما وحسب، من الناحية الجسدية، بما في ذلك الحاجبان المتصلان اللذان اشتهرت بهما الفنانة، بل لأنها تفعم الدور بالفرح الطاغي والحيوية المشتعلة والقـوة المغناطيسية. يقول الفنان الفرنسي (براك):«أشعر وكأنني أنفض الغبار عن اللوحة... إنها تتضح أمامي تدريجياً مع انحسار الغبار...»، وهذا بالضبط ما تفعله فريدا في لوحاتها.. ولكن أهو غبارالرغبات المكبوتة والمغلفة بضباب التجريدية والسوريالية..؟. إذا كان الغبار لدى براك غبار اللاوعي فهو لدى فريدا غبار لرغبات واعية «سياسية كانت أم عاطفية» من شابة متفتحة للحياة، ولكنه وعي معني ينزف دماً ويضج شهوات وآلاماً. الفيلم أعاد إنتاج الصورة الذاتية التي رسمتها بكثافة بالغة، حتى الحيوانات التي كانت تمرح في لوحات فريدا انطلقت في لوحات الفيلم.
اعتمد الفيلم على الصور التي بقيت في المخيلة والأخرى التي التقطها لها معاصروها، ومنهم لولا برافو، وهي واحدة من أقرب الناس إليها، وهي الصور الحميمية التي حركها الفيلم، وخاصة تلك التي تمثلها فوق كرسيها المتحرك تراقب زوجها وهو يرسم إحدى لوحاته الجدارية الضخمة، أما أشهر الصور فتلك التي تطرق فيها برأسها متكئة على راحة يدها وهي تغمض عينيها أو تكاد، وليس يميز الصورة سوى الخواتم غير المتشابهة في أصابعها، يحمل أحدها صورة طائر، والآخر منحوت على شكل قلب أيقونة الحب الذي كانت تبحث عنه طيلة حياتها. وقد ضفرت مخرجة العمل جولي تيمور هذه الحياة الحافلة للرسامة المكسيكية في سرد زمني مشحون بالعاطفة، مطعم بتألق بصري أخاذ، وجمالية باهرة متناثرة في مواقع متفرقة من السرد، و تكمن البراعة الفنية، الجمالية، في استخدام اللوحات على نحو خلاق، فالرسومات تصبح حية على نحو مفاجئ ومدهش أمام أنظارنا، إذ تخرج من أطرها الجامدة وتتداخل مع المظاهر الواقعية، ولوحة الحلم الشهيرة تتحول إلى مشهد متألق بصرياً في ختام الفيلم، حيث السرير الذي ترقد عليه فريدا مع هيكل عظمي فوقها مباشرة يحترق من تلقاء نفسه. وقام الممثل جيفري رش بدور عاشق فريدا: ليون تروتسكي، أما زوجها دييغو ريفيرا (1886 1957م)، فقام بدوره ألفرد مولينا.
يقدم الفيلم جدارياته بشيء من التوثيق وكثير من الحب. لكن المأساة تصل إلى ذروتها عندما تفقد جنينها وتحرم من الأمومة بسبب الحادث الذي تعرضت له، والشيء الآخر عندما يستدرج « دييغو» شقيقتها ويقيم معها علاقة غير مشروعة، فتثور فريدا وتطلب منه الخروج من حياتها إلى الأبد، وتنطوي على نفسها، تشرب كثيراً وتدخن أيضاً بشراهة غير أنها لم تهمل ابداً لوحاتها التي جاءت محملة بالعذابات المتكررة فأثنى عليها النقاد. وتأتي النهاية بقطع قدمها المصابة بالغرغرينا بعد أن رسمت ذلك وتنبأت بحدوثه قبل وقوعه، ولأنها تصر على إقامة معرض لها في بلدها، يلبي «دييغو» رغبتها.. ويوم الافتتاح تصر على الحضور.. إلا أن الطبيب ينصحها بعدم مغادرة الفراش، وحين تأخذنا الكاميرا إلى مشهد الافتتاح.. يفاجأ الجمهور بفريدا وهي تدخل عليهم محمولة على محفة وسط تصفيق الجميع، وهنا يتصل المشهد الأول مع المشهد الأخير بعد رحلة مع معاناة إنسانة وفنانة، وتحديها لجميع الظروف التي وضعتها في مواقف صعبة للغاية سواء على المستوى الجسدي أم النفسي أم العاطفي أم الفني والاجتماعي أيضاً.